صحراء المماليك.. مدينة الموتى اللي بتحكي عظمة القاهرة التاريخية
آثار المماليك القاهرة الخانقاوات السلطان إينال القاهرة التاريخية ترب الغفير تكية أحمد أبو يوسف جبانات مصر صحراء المماليك قباب المماليك مجموعة الأمير قرقماس مقابر المماليك
Mohamed Talaat
صحراء المماليك، أو كما اعتادت الألسنة أن تنطقها “ترب الغفير”، ليست مجرد جبانة، بل هي صفحة كاملة من تاريخ مصر العظيم، هي حقيقة القول جوهرة في قلب القاهرة التاريخية، منطقة بأسرها تقف شاهدة على أهم فترات الحكم المملوكي، عصر يتميز بالعمارة الفخمة والقوة العسكرية، لكن للأسف، من النادر نلاقي الاهتمام اللي يليق بالمنطقة العظيمة دي، وأنها تكون أساسية في الزيارة للقاهرة التاريخية، وتعالوا بينا في السطور اللي جاية نتعرف على كل تفصيلة محتاجين تكتشفوها عن ترب الغفير اللي أصبحت مدفن السلاطين وأطلق عليها “صحراء المماليك”.
مدينة مُخلدة
في الأصل، كانت هذه المنطقة الشاسعة غرب جبل المقطم كما يوحي اسمها صحراء وميدان لتدريب فرسان المماليك، لكن مع نهاية القرن الـ14 الميلادي، وتحديداً في عصر المماليك الجراكسة، تحوّل المشهد ولم يعد المكان مجرد ثكنة،ولكن بدأ السلاطين والأمراء في تشييد مجموعات معمارية متكاملة لهم من قصور، مساجد، مدارس، أضرحة، ومقابر، ومكنتش مجرد أماكن للدفن ولكنها كانت بمثابة مدينة مخصصة للموتى، وهي المحاولة الوحيدة للمماليك لإنشاء تجمعات عمرانية خارج أسوار القاهرة، مدينة تتنافس في فخامتها مع قصور الأحياء.
حب الجبانات
مش ممكن نفهم صحراء المماليك يدون توضيح حب المصري القديم بالجبانات فمن أهرامات الجيزة ومقابر وادي الملوك إلى جبانات سقارة والأقصر مفيش شعب أحتفى بالموت وبناء المقابر الخالد زي المصريين، ومع دخول العرب استغلوا سفح جبل المقطم للدفن بعدا ما رفض عمرو بن العاص بيعه للمقوقس تنفيذاً لأمر عمر بن الخطاب وخصصه لدفن المسلمين، وهنا ظهر اسم “القرافة”، وهو اسم قبيلة يمنية تحوّل مع الزمن ليصبح مسمى عاماً للجبانات في مصر، ومع التوسع تمددت المقابر لتبلغ ذروتها في الشمال الشرقي تحت حكم المماليك ويطلق على المنطقة إسم “صحراء المماليك” أو “الجبانة الشمالية”.
آثار مهملة وكنوز مخفية
ولو رحنا في جولة تخيلية بأزقة صحراء المماليك الأثرية فمن أول وهلة هتلقوا آثارا تتنفس عبق التاريخ رغم الإهمال الواضح، وهتقابلكم مجموعة الأمير قرقماس ومجموعة السلطان إينال، وكل مجموعة هي كيان معماري بيضم مسجد ومدرسة لعلوم الدين وضريح للدفن، ولكن للأسف هي روائع مقفولة لا يستطيع الزائر رؤيتها إلا من الخارج، كأنها تحتفظ بأسرارها لنفسها.
وبالقرب منهما بيظهر قصر مهجور يقال إنه كان لإحدى بنات الملك فاروق، علشان يضيف طبقة أخرى من الحكايات الحديثة فوق أساسات المماليك، ولو توغلنا في رحلتنا التخيلية هنلقى مدفن عائلة الزعيم الوطني عمر مكرم وبين كل اللي فات هتلقوا تكية أحمد أبو يوسف الأثرية التي تاريخها بيعود للقرن الـ9 هجريًا، ببقايا بابها وواجهتها علشان تكشف عن جوهر التكية كـ “مكان للمتعبدين المتصوفة ومساعدة عابري السبيل”، وهي البصمة الصوفية اللي كانت تضخ الحياة الروحية في المنطقة المعروفة بميدان الموت.
إبداع تاريخ السلاطين
يعكس التطور العمراني لصحراء المماليك مراحل تطور الدولة المملوكية بأسرها، وده استمر قرنين ونصف شهدوا 700 منشأة متنوعة ولكن للأسف المتبقى منها 35 أثر فقط لا غير بيحكي عن عظمة ترب الغفير، والبناءات كانت عبارة عن أضرحة وقبب وهي النمط المعماري الأكثر انتشار، وبتتميز بالقبب الحجرية بالزخرفة المتنوعة المذهلة واللي بتتطعم بدالات وأشرطة وزجزاجية وأطباق نجمية هندسية وأرابيسك نباتي، كأن كل قبة معرض فني منفرد بتحكي قصة أمير أو سلطان.
وكمان من ضمن البناءات الخانقاوات وهي أماكن تعبد ومعيشة صوفية تعتبر شريان لضخ الحياة في “مدينة الموتى”، وفي الأغلب بتتكون من صالة كبيرة “فناء” مفتوحة وبتحيط بها خلاوي لسكن المتصوين وإيوانات للأنشطة الصوفية.
وبالتأكيد كان فيه مساجد وزاويا ومدارس لأن المماليك دايمًا كانوا بيهتموا بمبدأ “المسجد الجامع” ومازالت هناك مدرسة الأشرف برسباي قائمة، أما الزوايا فهي كانت تقام للصلاة وممارسة الشعائر للطرق الصوفية.
حياة وسط الموت
الدراج والمتعارف عليه أن المقابر تعتبر مدن خالية من الحياة، ولكن المصرييون كانوا ومازالوا منفردين حيث كانت الزيارات الأسبوعية للمقابر بتخلي فيه حياة وسط الموت وطبقًا لكتابات المقريزي فأن الزيارات كانت 3 أيام اسبوعيى وبيشارك فيها الرجال والنساء والأطفال، وبيبقى في كل يوم فيه سوق بيضم كثير من المنتجات المختلفة، وبيتم قراءة القرآن من مقرئي المقابر اللي كانت أصواتهم حسنة ومشهورين في منطقة صحراء المماليك، وفي احدى أوصافه شرح ابن بطوطة أن المصريين كانوا بيبنوا قبب وبيخلوا حولها بيوت ليعيشوا فيها وينظموا مقارئ القرآن وكمان قعدات للزوار.
وطبقًا لكتاب “صحراء المماليك”.. بوابة السماء الشرقية للكاتب والمؤرخ المصري هاني حمزة أن ترب الغفير سجل مفتوح بيخطوا بين أروقته المهملة كل عاشق للقاهرة الخديوية علشان يشوف فن العمارة المملوكية والوازع الديني وشغف المصريين بعد الموت، وهي بتحكي للعالم حكايات سلاطين بنوا لأنفسهم مدن موتى لا تموت.